تشهد المكتبات في مرحلتها المزدهرة الراهنة تحوّلاً نوعياً يجعلها منارات عصرية تستشرف المستقبل وتواكب مساراته المتلاحقة. فقد غادرت حدود وظيفتها التقليدية، لتنهض بدورٍ تنموي فاعل، يعزز الوعي الرقمي، ويسهم في بناء مجتمع معرفي قادر على مواكبة تحديات العصر ومتغيراته.
إن المكتبة الحديثة لم تعد جدراناً ساكنة، بل غدت فضاءً
تفاعلياً نابضاً بالحياة، يربط الإنسان بالتقنية، ويزوده بالأدوات التي تمكّنه من
إدراك الواقع الرقمي والتعامل معه بوعي وبصيرة. ومن ثمّ، فإن إعادة النظر في دور
المكتبات لم تعد ترفاً فكرياً، بل ضرورة تفرضها مرحلة باتت المعلومة فيها متاحة
بوفرة، بينما يكمن التحدي الحقيقي في القدرة على فهمها وتحليلها وتوظيفها لتوليد
قيمة ومعرفة راسخة.
ما هي الثقافة الرقمية؟
تشير الثقافة الرقمية إلى مجموعة السلوكيات والممارسات والقيم
التي تنشأ وتتطور نتيجة التفاعل المستمر مع التقنيات الرقمية. وتشمل هذه التقنيات،
بمفهومها الواسع، الهواتف الذكية، ومنصات التواصل الاجتماعي، وأدوات التعاون
الرقمي، وأنظمة إدارة محتوى المؤسسات، والبنية التحتية السحابية، ونماذج البرمجيات
كخدمة، فضلاً عن البيئات الرقمية مثل شبكة الإنترنت، التي تمثل الركيزة الأساسية
للعالم الرقمي المعاصر.
ومع تزايد اعتماد المجتمعات على التكنولوجيا الرقمية، بما في
ذلك في المكتبات ومؤسسات المعرفة، تتعمق ملامح الثقافة الرقمية وتتسارع وتيرتها.
ويواكب هذا النمو تحوّل جوهري في أنماط التواصل والعمل والتعلّم والترفيه لدى
مليارات الأفراد حول العالم، وهو ما ينعكس بدوره على البنى الاجتماعية والمعايير
السائدة، محدثًا تغييرات ملموسة في طبيعة الحياة اليومية ومؤسساتها.
المكتبات كمحرك للثقافة الرقمية: دور حيوي في تمكين المجتمع الرقمي
وبناء مستقبل مستدام
تضطلع المكتبات بدور ريادي في تعزيز الثقافة الرقمية، حيث تُمكن
الأفراد من اكتساب المهارات والمعرفة اللازمة للتفاعل بفعالية مع العالم الرقمي المتلاحق،
ومع تزايد أهمية الكفاءة الرقمية، تتبنى المكتبات مبادرات شاملة لتقليص الفجوة
الرقمية من خلال إتاحة الوصول المجاني للتقنيات الحديثة وبرامج التدريب لمختلف
الفئات. وبهذا، تضمن المكتبات أن جميع الأفراد يتمكنون من مواكبة تطورات العصر
الرقمي.
سد الفجوة الرقمية
تلعب المكتبات دورًا أساسيًا في سد الفجوة الرقمية عبر إتاحة
الوصول المجاني إلى أجهزة الحاسوب، الإنترنت عالي السرعة، والأجهزة الرقمية
للمجتمعات التي قد تعاني من محدودية هذا الوصول. وتمثل المكتبات بذلك دعامة
تكنولوجية حيوية تعزز من المساواة في الوصول إلى المعلومات والتكنولوجيا.
الوصول إلى الموارد الرقمية
تسعى المكتبات إلى توفير موارد رقمية شاملة تلبي احتياجات
المجتمع المتطور، بما في ذلك الكتب الإلكترونية، الكتب الصوتية، المجلات الرقمية،
وقواعد البيانات. تتيح هذه الموارد للمستخدمين الوصول إلى المحتوى الرقمي بسهولة
من أي مكان وفي أي وقت، كما تمكنهم من استعارة المواد عبر الإنترنت. وقد أرست منظمة
الإفلا معايير لدعم الإعارة الرقمية بطريقة عادلة ومتوازنة، مما يوسع نطاق خدمات
المكتبات ويعزز تواصلها مع المجتمع.
مصدر الصورة DoD MWR Virtual
Library
دعم التعلم المستمر
تحافظ المكتبات على التزامها بتعزيز التعلم المستمر، خاصة في ظل
التطور الرقمي، من خلال تنظيم برامج تعليمية وورش عمل في البرمجة، محو الأمية
الرقمية، والأمن السيبراني. وتقدم المكتبات إرشادات حول المواطنة الرقمية
والمسؤولية عبر الإنترنت، بالإضافة إلى ورش الذكاء الاصطناعي التي تسهم في إعداد
الأفراد لبيئة رقمية متطورة.
مصدر الصورة : Caltech
Library
تعزيز ثقافة المعلومات
في عصر انتشار المعلومات المتعددة والمضللة، تقدم المكتبات
برامج تساعد الأفراد على تطوير مهارات تقييم المحتوى الرقمي وتحديد المصادر
الموثوقة، مما يمكنهم من اتخاذ قرارات جيدة والتفاعل مع المحتوى الرقمي بمسؤولية
ووعي.
المصدر، مكتبة جامعة كاليفورنيا بربكلي
دعم المواطنة الرقمية
تعمل المكتبات على تعزيز ثقافة المواطنة الرقمية عبر توفير
برامج تثقيفية حول الخصوصية الإلكترونية والأمن السيبراني وآداب السلوك الرقمي،
مما يساعد الأفراد على ممارسة حقوقهم ومسؤولياتهم الرقمية بوعي وتفاعل إيجابي.
تحفيز الابتكار والإبداع الرقمي
تعد المكتبات اليوم حاضنات أساسية للإبداع والابتكار الرقمي،
حيث توفر للمستفيدين الوصول إلى مجموعة واسعة من الأدوات والموارد التي تعزز من
قدراتهم على استكشاف مواهبهم وتطوير مهاراتهم في المجال الرقمي. إلى جانب هذه الموارد، تقدم المكتبات مساحات
الابتكار الرقمي أو ما يعرف بـ "Maker
Spaces"، وهي مناطق مصممة خصيصًا للتعلم العملي
والتجريب، حيث يمكن للأفراد تصميم وتطوير مشاريعهم باستخدام تكنولوجيا متقدمة مثل
الطابعات ثلاثية الأبعاد، وأجهزة القطع بالليزر، وأدوات البرمجة والروبوتات. تُسهم
هذه المساحات في دعم روح الابتكار والتعلم التعاوني، حيث يجتمع المستفيدون من
مختلف الأعمار والخلفيات لتبادل الأفكار والعمل سويًا على مشاريع إبداعية. وبهذا،
تلهم المكتبات ثقافة الابتكار وريادة الأعمال في المجتمع، مما يعزز من قدرتهم على
مواجهة تحديات المستقبل بثقة ومهارة.
المصدر، مكتبة جامعة كارولينا الشمالية
التمكين الاقتصادي الرقمي
تسهم المكتبات في دعم التمكين الاقتصادي من خلال تقديم برامج
تدريبية في بناء السير الذاتية، مهارات البحث عن الوظائف، وريادة الأعمال. كما
تتيح المكتبات فرصًا للتعاون مع الشركات المحلية لربط الأفراد ببرامج تدريبية وفرص
وظيفية تلائم مهاراتهم.
المصدر، مكتبات جامعة ميسيسيبي
بناء مجتمعات رقمية تفاعلية
تعمل المكتبات كأفرع حيوية في نسيج المجتمع، حيث تجمع الأفراد
معًا لتبادل الأفكار والمشاركة في نقاشات بناءة. وفي العصر الرقمي، تلعب المكتبات
دورًا محوريًا في تعزيز المجتمعات عبر الإنترنت من خلال استخدام منصات الوسائط
الاجتماعية، والمنتديات الرقمية، والفعاليات الافتراضية. فهي تنظم المحتوى
والموارد الرقمية التي تعكس اهتمامات واحتياجات مجتمعاتها، مما يوفر مساحات
تفاعلية تتيح للأفراد التواصل وتبادل المعرفة والمشاركة في نقاشات بناءة.
أخيرا، وليس أخرا ، يتجاوز
دور المكتبات في تعزيز الثقافة الرقمية من مجرد نشر ثقافة الوصول إلى التكنولوجيا
والمعلومات. فهي تعمل كمراكز حيوية للتعلم والإبداع والمشاركة المجتمعية، حيث تتيح
للأفراد من مختلف الخلفيات اكتساب المهارات والمعارف اللازمة لتحقيق النجاح في
العصر الرقمي. من خلال سعيها لسد الفجوة الرقمية وتعزيز التعلم المستمر، إلى دعم
المواطنة الرقمية وتشجيع الابتكار، وتمكين الأفراد والمجتمعات من التعامل مع
تعقيدات العالم الرقمي بثقة وكفاءة.
مع استمرارنا في مواجهة الفرص والتحديات التي يطرحها العصر
الرقمي، تظل المكتبات ملتزمة بتعزيز الثقافة الرقمية، مما يضمن أن يتمكن الجميع من
الاستفادة من القوة التحويلية للتكنولوجيا من أجل تحسين مجتمعاتهم. من خلال
البرامج التعليمية وورش العمل والمبادرات المجتمعية، فقد تثبت المكتبات من خلال
هذا التوجه أنها شريك أساسي في رحلة
التعلم والابتكار، مما يسهم في بناء مستقبل رقمي أكثر شمولًا وتقدمًا.
المصادر
Real News/Fake News: About Fake News
Library MakerSpace grand opening at the UL






ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق